فصل: من فوائد ابن القيم رحمه الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومراده: أنه قدم وافدًا، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرًا، فيمتنع عليه السؤال.
وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب، وفودًا كانوا أو غيرهم.
وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: لمّا نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} الآية، كنّا قد أتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم. فأبينا أعرابيًّا فرشوناه برداءِ وقلنا: سل النبيه صلى الله عليه وسلم.
ولأبي يعلى عن البراء: إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيّب، وإن كنا لنتمنى الإعراب- أي: قدومهم- ليسألوه، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب، فيستفيدوها.
وأمّا ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي عن الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة: كالسؤال عن الذبح بالقصَب. والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة. والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن. والأسئلة التي في القرآن: كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك.
لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عمّا لم يقع، أخذوه بطريق الإلحاق، من جهة أن كثرة السؤال، لمّا كانت سببًا للتكليف بما يشق، فحقها أن تجتنب.
وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل «مسنده» لذلك بابًا. وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارًا كثيرة في ذلك، منها: عن ابن عمر: لا تسألوا عما لم يكن. فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن.
وعن عمر: أحرّج عليكم أن تسألوا عمّا لم يكن. فإن لنا فيما كان شغلًا.
وعن زيد بن ثابت، أنه كان إذا كان إذا سئل عن الشيء؟ يقول: كان هذا؟ فإن قيل: لا! قال: دعوه حتى يكون.
وعن أُبيّ بن كعب، وعن عمار نحو ذلك.
وأخرج أبو داود في «المراسيل»: عن أبي سلمة ومعاذ مرفوعًا: لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها. فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين مَنْ إذا قال سُدِّد- أو وفق- وإن عجلتم تشتَّتَتْ بكم السبل.
وعن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعًا: لا يزال في أمتي من إذا سُدِّد، حتى يتساءلوا عمّا لم ينزل.
قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك، أن البحث عما لا يوجد فيه نص، على قسمين:
أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه. بل ربما كان فرضًا على من تعين عليه من المجتهدين.
ثانيهما- أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طرديّ مثلًا. فهذا الذي ذمه السلف. وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: هلك المتنطعون... أخرجه مسلم، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته.
ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدًا، فيصرف فيها زمانًا كان صرفه في غيرها أولى، لاسيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه. وأشد من ذلك- في كثرة السؤال- البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها. ومنها لا يكون له شاهد في عالم الحسّ. كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة.. إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف. والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان من غير بحث. وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة. قال بعضهم: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن- أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق: هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فيجيبه بالجواز. فإن عاد فقال: أخشى أن يكون من نهب أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه بالمنع. ويقيّد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى. ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز. وإذا تقرر ذلك، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها- ولاسيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولاسيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة- فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كره السلف. ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظًا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، الذين شاهدوا التنزيل. وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرًا على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يحمد وينتفع به. وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم- كذا في «فتح الباري».
ثم رأيت في «موافقات» الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى، في أواخرها- في هذا الموضوع- مبحثًا جليلًا، قال في أوله:
الإكثار من الأسئلة مذموم. والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح. من ذلك قوله تعالى...- وساق هذه الآية وما أسلفناه من الآثار وزاد أيضًا عما نقلنا- ثم قال: والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية، مذموم. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُعِظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه. وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم.. ثم قال: ويتبيّن من هذا أن لكراهية السؤال مواضع، نذكر منها عشرة مواضع:
أحدها: السؤال عمّا لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: مَن أبي؟ وروي في «التفسير» أنه عليه السلام سئل: ما بال الهلال يبدو رقيقًا كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرًا ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] الآية، فإنما أجيب بما فيه منافع الدين.
وثانيها: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته، كم سأل الرجل عن الحج: أكل عام؟ مع أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت} [آل عِمْرَان: 97]، قاض بظاهره أنه للأبد، لإطلاقه. ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة} [البقرة: 67].
وثالثها: السؤال من غير احتياجٍ إليه في الوقت، وكأن هذا- والله أعلم- خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: «ذَرُوني ما تَرَكْتُكمْ». وقوله: «وسكت عن أشياء رحمةً بكم، لا عَنْ نسيان، فلا تبحثوا عنها».
ورابعها: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهي عن الأغلوطات.
وخامسها: أن يسأل عن علة الحكم- هو من قبيل التعبدات، أو السائل ممّن لا يليق به ذلك السؤال- كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.
وسادسها: أن يبلغ بالسؤال إلى حدّ التكلف والتعمق، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، ولما سئل الرجل: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال عُمَر بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا. فإن نرد على السباع وترد علينا.
وسابعها: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، ولذلك قال سعيد: أعراقيّ أنت؟ وقيل لمالك بن أنس: الرجل يكون عالمًا بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا. ولكن يخبر بالسنة. فإن قبلت منه وإلاّ سكت.
وثامنها: السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عِمْرَان: 7] الآية. وعن عُمَر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أسرع التنقل. ومن ذلك سؤال من سأل مالكًا عن الاستواء؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهول، والسؤال عنه بدعة.
وتاسعها: السؤال عما شجر بين السلف الصالح. وقد سئل عُمَر بن عبد العزيز عن قتال أهل صِفِّين؟ فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن ألطّخ بها لساني.
وعاشرها: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام. وفي القرآن في ذم نحو هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]، وقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] وفي الحديث: أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدًا، بل فيها ما تشتدّ كراهيته، ومنها ما يخفّ، ومنها ما يحرم، ومنها يكون محلّ اجتهاد. وعلى جملة، منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء: أن المراء في القرآن كفر. وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] الآية. وأشباه ذلك من الآي والأحاديث... فالسؤال في مثل ذلك منهيّ عنه، والجواب بحسبه. انتهى كلامه.
التنبيه الرابع:
قال بعض المفسّرين: لابد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة. لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وقال صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا. فإنما شفاء العيّ السؤال..» انتهى.
ولا يخفى أن الآية بقيدها- أعني: {إِن تُبْدَ}.. الخ- غنية عن أن تقيّد بقيد آخر كما ذكره البعض. لأن المراد بها ما يشق عليهم من التكاليف الصعبة وما يفتضحون به- كما أسلفنا- مما هو خوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه. وفيه خطر المفسدة. والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة، يجب على العاقل الاحتراز عنه.
وأما ما تدعو إليه الحاجة فلا تشمله الآية- كما يتضح من نظمها الكريم- مع ما بيّنته السنة في سبب النزول، وتحرج الصحابة عن المسائل المارّ بيانه- معلومٌ أنه فيما لا ضرورة إليها. وإلاَّ فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كتب السنة، مما يبيّن أن هذه الآية في موضوع خاص.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل، خشية أن تفضي إلى حرج أو مسادة أو تعنّت..
روى الشخان عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال: وإضاعة المال، وكثرة السؤال.
وروى أحمد وأبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات- وهي صعاب المسائل- والآثار في ذلك كثيرة. اهـ.

.من فوائد ابن القيم رحمه الله:

.معنى الرأي:

الرأي في الأصل مصدر رأي الشيء يراه رأيا ثم غلب استعماله على المرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى ثم استعمل في الشيء الذي يهوى فيقال: هذا هوى فلان والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا ورآه في اليقظة رؤية ورأى كذا لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين رأيا ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الإمارات فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به أنه رأيه ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الإمارات إنه رأى وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها.